الفصل الخامس
أمسك بحلقات معدنية دائرية .. رنينها يجعلني أشعر بخوف أزلي ... حلقات بمثابة قيود لا خلاص منها إلا بمأساة ... زواج وازدواج والمحصلة تزاوج الازدواجية.
فتيات وأحلام وشطآن خيال .. لحرية الانطلاق والعيش كحورية في حكايات الجدات
شبان وبطولات وفتوحات .. لأراض بكر لم يكتشفها أحد من قبل
ويلتقي فارس الأحلام بأميرة الزمان في مملكة شيدت قصورها من الرمال
وهكذا تبدأ الحكايات لتنتهي بانهيار الأبطال .
تعبر ذاكرتي مقولات لأدباء وفلاسفة وفنانين ... الزواج قيد .. مقتل الإبداع .. نهاية حرية الذات .. ها أنا أقف مع نفسي في مواجهة هؤلاء أرمقهم ببرود وأسى وأحاججهم بالصمت ... وأبوح لنفسي بأفكاري .. مفهومي الخاص عن الزواج يتلخص في أن كل من الرجل والمرأة يحتاج إلى شريك يقاسمه حياته لتحقيق توازن الداخلي .. وليس لإشباع حاجة جسدية من الآخر ... فذلك بمثابة امتهان الإنسان لنفسه وليس للآخر.. ولا بد قبل التفكير في الارتباط، أن يصل كلا الطرفين إلى مرحلة النضج النفسي مهما طالت مدتها، أي المرحلة التي لا يحتاج فيها إلى ارتداء شخصية أخرى لاستحواذ إعجاب الآخرين ... حينما يصل إلى القناعة بأن يكون هو نفسه أينما كان ومع أي كان ... تلك المرحلة التي يتعرف فيها الإنسان على شخصه .. هل هو مادي أم روحي أم بين بين ... هل يتعامل مع الحياة بفكر أم يعيشها كما هي أم يفضل أن يكيفها حسب قناعته.
والزواج لا يعني التوحد التام .. بل لا بد من وجود هامش من الاستقلالية يمارس من خلاله كلاهما اهتماماته الفردية على أن يجمعهما الود والثقة بالنفس والشريك والرغبة في بناء أسرة متماسكة رغم اختلاف شخصيات وميول أفرادها مع الابتعاد تماما عن المقارنات التي توقع الطرفين في متاهات لا حصر لها.
لا يمكنني استيعاب المزيد ... أريد أن أرتاح قليلا... أريد أن أتحرر من ذلك العبء الثقيل .. أخرج مرة أخرى .. إنما هذه المرة في اتجاه البحر .. أريد أن أسلم نفسي لمساحات شاسعة تتمكن من استيعاب أعماقي .. البحر والمدى ملاذي... أصل الشاطئ .. أجلس على الرمال الذهبية .. نظري معلق في الفضاء أمامي.. الشمس وقد بدأت تفقد حدتها .. تداعبني الأمواج .. تغريني باللعب معها .. (أتـنهد) علي أن أنهي مهمتي قبل غروب الشمس .. وإلا فاتني القطار .. في الغد سأكون لها ولتلك الألوان الترابية التي تطالعني في دروب عودتي.
الفصل السادس
أجلس من جديد .. أتأمل ما تبقى .. أتناول مفتاح الحياة .. بالتأكيد ستكون الصداقة رفيقة دربي على الدوام وفي جميع محطات العمر. أتساءل، ترى لم كلما تقدم بي العمر قل عدد الأصدقاء، رغم استيعابي الأعمق للصداقة التي تأخذ مداها في العمل وليس في المساحة .. أما لماذا وكيف والدليل .. فذلك ما أجابتني عنه الأيام والتجارب والمحن.
ولمعادلة الصداقة ثلاثة رموز وحلها كالتالي :
إنسان في أي مرحلة من العمر + صديق+ ثقة = تفريغ للروح والعقل = التوازن الداخلي. والتفريغ النفسي يساعد العقل طردا على التفكير بصفاء كما يعين الروح على تحررها من شوائب الهموم اليومية. أي أن عامل القسمة المشترك لراحة للإنسان هو الصداقة.
أتأمل المفتاح باعتزاز، لو أردت التحدث عن الصداقة لربما احتجت لأيام عديدة ووقتي لا يسمح لي الآن بذلك. غير أن خلاصة تجربتي الأربعينية (مرة أخرى) تؤكد بأن الصداقة أشبه بالوطن أو بالأحرى بديل للوطن في كثير من الأحيان سيما حينما نفتقد فيه حريتنا. فالحنين مشترك ولطالما وجد الإنسان في وجدان صديقه وطنا لحريته وللبوح عن أفكاره وهمومه.
والعصب الرئيسي للصداقة هو عدم الوقوع في أي التباس لمفهومها، إذ أن أي تجاوز لهامشها يسبب التباسا يؤدي عاجلا أم آجلا لنهايتها. بمعنى آخر يفترض أن لا يحل الصديق مكان الآخرين في حياته، إلا بصورة آنية أي لمرحلة زمنية محدودة تبعا للظروف أو المحنة التي يمر بها الآخر أو الصديق.
واللقاء مع الصديق جلسة تأمل.
تساعد في بلورة الرؤيا لدى كلاهما خلال اجتياز محن الحياة. وأساس الصداقة يبنى على قواعد هندسية تبدأ بالأساسيات وتنتهي بقمة الهرم . أي لا بد للطرفين في بداية تقاربهما أن تأخذ العلاقة بينهما بعدها الزمني الطبيعي لمعرفة واستيعاب شخصية الآخر، دون أي اندفاع وافتراض لتماثل الأفكار والآراء. لا بد أن تكون العاطفة في هذه المرحلة محجمة ليأخذ العقل دور الدارس والمكتشف وعلى أساسه تبنى لبنات الصداقة من خلال المحاور المشتركة بينهما. وأي اندفاع وافتراض يؤدي عاجلا أم آجلا لخلاف شديد يولد القطيعة وربما العداوة بينهما والضرر لأحد الطرفين أو كلاهما رغم سلامة نية الطرفين في هذا الإطار. وان أخذت الصداقة حيزا أكبر من حجمها الطبيعي ولدت انفعالات كثيرة كالسيطرة والمقارنة والغيرة التي هي جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان.
الفصل السابع
أعود مرة أخرى إلى سرير وجودي.
أرى أمامي عجلة صغيرة تشبه رقاص الساعة .. أتنهد .. ترى إلى متى سأبقى أعمل .. عشرون عاما وأنا أدور مع عجلة الزمن .. وان توقف الزمن أنا توقفت .. أنا لا أتذمر من فكرة العمل بحد ذاتها بل من الصورة التي يمارس بها.. أتذمر من العمل الذي يمتص طاقة الإنسان دون أن يمنحه بالمقابل أي سكينة أو استقرار .. ذلك العمل الذي يأخذنا لحما ويرمينا عظاما .. وأنا هنا لا أتحدث عن الذين يعملون لتكوين ثروة .. هؤلاء من عالم آخر .. إنما أتحدث عن الذين يريدون أن يعيشوا بسلام مع أنفسهم ومع العالم .. وللأسف هم دوما يقعون ضحية أطماع الآخرين الذين لا يتوانون عن سلبهم حياتهم في سبيل بناء مجدهم وثروتهم .. عشرون عاما وأنا أعمل وأعمل وأعمل ولا أدري إلى متى علي أن استمر في العمل .. ربما حتى أفارق الحياة أو حتى يلفظني أرباب العمل بدعوى تقدمي في العمر .. وهذه الفكرة تمثل كابوسا مرعبا فحينها من سيعيلني .. وطني أم عائلتي أم من .. وما الذي سيحل بكرامتي
والمؤلم أن يمارس الإنسان عملا لا يمت بصلة لاهتماماته وميوله. والغريب أنه ينجح في عمله الذي يكون شديد البعد عنه. حاولت مرارا أن أمارس عملا قريبا من اهتماماتي .. لكنني عجزت عن الاستمرار .. ربما لأن ممارسة العمل بعشق وإتقان يجعلك ترفض الممارسات التي تتناقض مع هذا المجال .. كالصحافة مثلا لا يمكن لمن يعشق هذه المهنة أن يكتب بصورة تقليدية ويقوم بتنفيذ مواضيع وتحقيقات تتنافى مع الواقع أو تتناول الحقيقة من أحد وجوهها مع تعتيم الجوانب الأخرى. ربما من الأفضل لي أن لا أستمر في هذا الحوار إذ أن ذلك يفتح جروحا عديدة لطموحات وأحلام بقيت في حيز الرغبات المخزونة، بسبب التزامات حياتية تمنعني من التفرغ لها.
وعلي أخيرا أن أعترف بأفضال العمل على حياتي .. فها أنا أصل إلى عتبة الأربعين ورغم ذلك لا تنتابني مشاعر الإحباط واليأس .. العمل جعلني أدرك بأن حياتي لا تنحصر في أنوثتي فقط بل جعلني أعيش كانسانة لها اهتمامات عديدة في الحياة .. الخوف الذي ينتابني أحيانا من تجاوز مرحلة الشباب هو خوف عام مشترك لدى الجميع ..
خوف لزاما علي وضعه في الحقيبة.